ريتشل بيكلز ويلسون
في “قصص ألف ليلة وليلة” تجري أحداث قصة الليلة (288) في قصر مهيب خلف باب مصنوع من خشب الساج ومطعّم بالذهب، عبر قاعة ومروراً بنافورة ووصولاً إلى الوسائد المطرزة، والسجاد والستائر التي تسلب الألباب وتبعث على الذهول. وكما أن فتنة الناس وولعهم بالحرف الجميلة يعود للعصور القديمة، كذلك الأمر فيما يتعلق بهواية جمع الأشياء والقصص المتعلقة بها.
“فُتح الباب، ودخل أحد الخصيان يحمل كرسياً من العاج مطعماً بالذهب اللماع، تتبعه فتاة ذات جمال باهر وحسن وروعة. وضع الخصيّ الكرسي وجلست الفتاة عليه كأنها الشمس المشرقة في سماء صافية. كانت تحمل في يدها عوداً صنعه حرفي هندي، ووضعت العود في حجرها وانحنت عليه كما تنحني الأم على وليدها “
من هم أصحاب القصص التي تخفيها هذه الآلات الموسيقية المرغوبة بشدة في يومنا هذا؟ في كثير من الحالات لن يمكننا أن نعرف لأن صانعي هذه الآلات لم يعرّفوا بأنفسهم. ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر بدأت العادات تتغير حيث أصبح صانعو الآلات أكثر حرصاً على التعريف بأنفسهم من خلال وضع لصاقات على أعمالهم. ويمكننا اليوم أن ننظر من خلال “الشمسية” لنجد اسم الصانع وتاريخ ومكان الصنع وقد نجد أحياناً صورة للصانع. لقد قمنا في هجرات العود (Oudmigrations) بدراسة مجموعة خاصة تتضمن آلة عود مصنوعة سنة 1908 على يد “كرقور كهيا Kirkor Kahya ” أحد أفراد الجالية الأرمينية في إسطنبول وواحد من أشهر صانعي العود في المدينة.
كما أننا علمنا بأن إحدى آلات “الطنبور” الموجودة في المجموعة مصنوعة على يد (قارابت دانيليان Garabet Danielian) في سنة 1901.
ولم يكن الأرمينيون هم الحرفيون الوحيدون المهمون في مجال صنع الآلات الموسيقية في المدينة. فقد شهدت هذه الفترة التاريخية من القرن وجود صانع آلات موسيقية وترية شهير هو “مانوليس فينيوس Manolis Venios ” من الجالية اليونانية. واعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر استفادت إسطنبول من تدفق الموسيقيين العرب الذين كان منهم ثلاثة أخوة من عائلة “قضماني” أحضروا معهم تراثاً حرفياً دمشقياً وأثبتوا أنفسهم كموسيقيين وصانعي أعواد/أدوات وترية، وناشرين موسيقيين.
لطالما كان الفكر الإسلامي معارضاً للموسيقى وصناعة الآلات الموسيقية على وجه التحديد، وقد كان هؤلاء الصانعون الأرمينيون واليونانيون والعرب من المسيحيين. ولكن على الرغم من إحجام المسلمين في العالم العربي عن العمل في صناعة الآلات الموسيقية، فقد كان هناك العديد من صانعي الآلات الوترية المسلمين في إسطنبول، وكان منهم يهود أيضاً. وأحد الأمثلة عن الصانعين المسلمين هو “ضيا أسطى Ziya Usta ” أحد صانعي العود والطنبور غزيري الإنتاج والذي كان يورد منتجاته من آلات الطنبور إلى (جميل بك الطنبوري Tanburi Cemil Bey) أحد أشهر الملحنين الذين عملوا على آلات مختلفة في تلك الحقبة من الزمن. ومن المحتمل ان يكون “ضيا أسطى” قد قام بصنع واحدة من آلات الطنبور الموجودة في هذه المجموعة.
لذلك فإن جمع الآلات الموسيقية العثمانية أمر يشتمل على جمع ذكريات الناس، وكل واحد معه تقاليد ولغة خاصة به.
لكن الناس يقومون بجمع الآلات الموسيقية لأسباب تختلف اختلافاً شاسعاً فيما بينها. فبعضهم يقوم بجمعها لأغراض الجمع فقط حيث أن اقتناء عدد كبير من الأدوات قد يسبب لهم شعوراً خاصاً بالسرور والحماس والمكانة الاجتماعية أو يدر عليهم الأموال. بالنسبة لبعض هواة الجمع الآخرين يكون الهدف من الآلات الموسيقية هو الجمال المادي لذلك يكون الشكل أو التزيين هو الميزة الأهم في الآلة. لطالما فُتن الأوروبيون بفنون التزيين والزخرفة الإسلامية، سواء كانت أشكال النباتات المستخدمة في خشب “الأرابيسك”، أو الخط العربي أو الأفكار المستوحاة من الخط العربي. ويمكننا تتبع هذا الهوى الشرقي في فن العمارة والتصميم الداخلي وكذلك في مجموعات السجاد والتحف. كما يمكننا رؤيتها في اللوحات الشرقية مثل اللوحة المبينة في هذه المقالة: “نور الحريم The Light of the Harem’ ” للفنان الإيرلندي تشارلز وايني نيكولز (1831-1903).
ولم يكن الشغف بالجمال البصري مقتصراً على الأوروبيين. ففي سبتمبر 2016 تم عرض المجموعة التي نتكلم غنها في متحف ميهو فيمدينة “كيوتو” وذلك بالتزامن مع معرض “جواهر” الخاص بأسرة “آل ثاني”. في ذلك الوقت، كانت المجموعة قد تم شراؤها من قبل الشيخ حمد بن عبد الله آل ثاني من قطر وتم القيام بعملية ترميم لجميع الآلات الموسيقية في المجموعة على يد “كريم عثمان حسن”. وفي “كيوتو” تضافر سحر البصر – حيث كانت الآلات الموسيقية هي “الجواهر” – مع فتنة السمع حيث استخدمت بعض هذه الآلات في الحفل الموسيقي الخاص بالموسيقى العثمانية التقليدية بقيادة قدسي إرغونير (Kudsi Erguner) ومشاركة كل من ستراتيس سارديليس (Stratis Psaradellis) وسركان مسعود حليلي (Serkan Mesut Halili) ومراد أيديمير (Murat Aydemir) وإنفر ميت أصلان (Enver Mete Aslan) وبرونو كايلات (Bruno Caillat) وبكير بويوكباس (Bekir Buyukbas).
ويميل صانعو الآلات الموسيقية لجمع الآلات لأغراض الدراسة وتحسين فهمهم لأساليب الصناعة التاريخية والإقليمية والفردية. في أعمالهم الخاصة بهم يمكنهم العناية بجميع هذه النواحي حيث تتم عملية الصناعة وفقاً لتعليمات الزبون أو طلب السوق. بعض الآلات الموسيقية التاريخية تتميز بكثرة الزخارف والزينة لدرجة أثرت في جودة الأصوات الصادرة عنها: إن مثل هذه الأدوات قد تمت صناعتها للعرض البصري أكثر من كونها آلات موسيقية مصممة لتطرب الآذان. أما العازفون الذين يهوون جمع الآلات الموسيقية فيبحثون عن الصوت والشعور. والبعض منهم يكون بحاجة لتجهيز نفسه لمختلف المناسبات والأغراض.
معظم الآلات هجينة وتحتوي على أجزاء من حقب سابقة ولكنها تحتوي على الكثير من الإضافات من الأوقات المعاصرة. في بعض الحالات نجد أن هذه الإضافات تخدم الموسيقيين بشكل جيد، حيث يتم استبدال الأجزاء الهشة والمتضررة لكي تتمكن الآلة من العودة للعزف بشكل جيد. ومن النادر جداً أن نجد آلة موسيقية في هذه المجموعة قد حافظت على لوحة الصوت أوالسطحة الأصلية ذات الوجه المحدب مثل “الطنبور” الذي يعود لأواخر القرن الثامن عشر.
ولكن صانعي الآلات الموسيقية الوترية لا يتكلمون دائماً من يتكلم بصراحة عن عملهم لأن الاعتراف بأن بعض أجزاء هذه الأدوات جديدة قد يقلل من قيمتها. ودائما حين يكون ثمة افتتان وشغف بالتاريخ والأصالة، يكون هناك مجال للتزوير والغش. ومنذ أواخر ثمانينات القرن العشرين كان هناك ازدياد في الاهتمام بالآلات الموسيقية القديمة، وقد ساعد التنافس الشديد بين العازفين والجامعين والتجار على تزايد حالات الغش والتزوير بشكل كبير.
إن القصص الصحيحة وغير الصحيحة التي نرويها عن الآلات الموسيقية يمكن مقارنتها بقصص “ألف ليلة وليلة” التي طبعت نسخة قديمة منها في “بولاق” إحدى ضواحي القاهرة، والتي تم صنع آلة العود الثانية من ضمن هذه المجموعة فيها.
وبعد أن أصبحت هذه الألة مطعمة بزخارف وزينة قام بها حرفي من إسطنبول، أصبحت بعض أجزاء تاريخها واضحة ولكن العديد من الأجزاء الأخرى تظل غامضة ومبهمة، على نحو لا يشبه تكرار القصص والحكايا في “ألف ليلة وليلة”. فكيف لنا أن نعرف من أين تتولد هذه القص، وإلى أين ستؤول؟
النصوص من “ألف ليلة وليلة” مقتبسة من المجلد الأول من نسخة ترجمات شركة بنغون (Penguin) ” الكلاسيكية التي قام بها (مالكولم سي ليونز Malcolm C. Lyons) & (أورسولا ليونز Ursula Lyons) في 2010.