ريتشيل بيكلز ويلسون و كريم عثمان حسن
يحتوي غلاف تسجيل العزف المنفرد لسلمان شكر على صورة للعود الذي كان يعزف به، وتضم صورة جانبية لرأسه “بروفايل”. إن تراكب صورة رأس العازف على العود يوحي بحس غريب من الحركة: حيث تبدو خطوط أضلاع العود وكأنها تمسح رأسه وصولاً إلى قاعدة العود، أو أن رأسه يتمتع بطاقة تجذب الخطوط باتجاهه؟ إن هذا التمثيل المدهش ساهم في فوز المصممة “لوري ريتشاردز” بجائزة أفضل غلاف في فئة الموسيقى الكلاسيكية ضمن جوائز (نيو ميوزيكال اكسبرس) السنوية المخصصة للموسيقى البريطانية في سنة 1978.
ويوحي التصميم بأن العلاقة ما بين العازف والآلة يمكن أن تستمر حتى بعد وفاة العازف، كما لو أن روحه تسكن في العود للأبد. عندما تمسك بهذه الآلة لا يمكنك مقاومة سحر الفكرة بأن هذا العود كان يحمله سلمان شكر بين يديه عندما سجل هذه المقطوعة. الصوت الصادر عن العود ذو جرس مرهف ودقيق، ما يوجي بوجود انسجام وسعادة بني العازف والآلة.
ومع أن الغلاف يظهر وجهاً شهيراً، إلا أنه يخفي واحداً آخر، اسم صانع العود الذي وضع اسمه في داخل حفرة القمرة (محمد على “العوّاد”).
داخل القمرة يمكننا أن نجد الوجه المفقود. لقد كان العواد محمد علي (1930- 2002) ووالده “الأسطى علي الياس علي خان بابا” (1904 – 1960) لعدة سنوات أشهر صانعي الأعواد المطلوبين في بغداد.
الأسطى علي الأب ولد في إيران سنة 1904 وانتقل إلى تركيا حيث يبدو أن درس وتعلم صناعة الأعواد. وانتقل إلى بيروت في أواخر العشرينيات من القرن الماضي حيث ولد ابنه محمد، حيث أغرته هناك قوة المشهد الموسيقي المتنامي. في سنة 1935، عندما كان محمد في سن الخامسة، انتقلت العائلة من جديد ولكن هذه المرة إلى بغداد. وقد كان التوقيت مناسباً حيث تزامن مع تأسيس معهد الفنون الجميلة في بغداد وكان مدير المعهد “شريف محي الدين حيدر”، أحد عازفي العود المشهورين والموهوبين في وقته. درس الأسطى علي – الذي عُرف في العراق باسم “علي العجمي” نسبةً إلى أصله الإيراني – العود في المعهد مع جميل بشير، ومنير بشير، وسلمان شكر، وقام بصناعة الأعواد لشريف محي الدين وجميل بشير.
هذا التقارب اللصيق مع هؤلاء الأشخاص يقودنا إلى الافتراض بأن “محمد علي” قام بصنع هذا العود الذي نتكلم عنه في هذه المقالة خصيصاً لاستخدام “سلمان شكر”. ولكن يبدو أن العود صنع أصلاً لشخص آخر. حيث توجد في نهاية جسم العود – عند نقطة تلاقي الأضلاع ببعضها – دائرة تحمل اسماً لشخص آخر (إسماعيل أحمد أو أحمد إسماعيل).
من الصعب القول ما إذا كان “الأسطى علي” قد تأثر بصانعي العود في بيروت، وذلك نظراً لأن المدينة في عشرينيات القرن الماضي كانت بمثابة الحاضنة لمختلف الأساليب المهنية المتنوعة، وخصوصاً المسيحيين الشرقيين من البقاع المختلفة للامبراطورية العثمانية السابقة. غير أن تأثير مدينة إسطنبول كان واضحاً في هذا العود الذي نتحدث عنه والذي صنعه ابنه “محمد علي”. ويبدو هذا الأمر جلياً في قطر القمرة البالغ 9.5 سم، وهو القياس الشائع في الأعواد المصنوعة في إسطنبول (وخصوصاً مدرسة “مانول” وما شابهها)، بخلاف الأعواد المصرية أو السورية التي يبلغ قطر القمرة فيها 11-12 سم. كما أن الزخارف المصنوعة من خشب الورد الهندي الغامق تدل على الأسلوب المتبع في إسطنبول. إن القمرتين الأصغر حجماً منحوتتان بزينة من النوع الشائع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (علامات موسيقية ثلاثية – رموز – عصي – نغمات – وزخارف موسيقية). هذا الأسلوب يبدو في غير محله. فتحة الصوت تركت على حالها بدون أي زينة على المحيط أو في تطعيم. وتبدو هذه البساطة في البناء واضحة في حواف خشب الورد البسيطة الموجودة على الصدر.
الصدر مصنوع من خشب التنوب المتوسط النعومة (قد يكون من التنوب القوقازي). إن تناسقه والحرفية العالية المتقنة في صناعته تمنعنا من معرفة عدد القطع التي يتكون منها. على الأغلب تم استخدام أكثر من قطعتين في صناعته.
تم استخدام قطعة من قشر خشب الجوز الخفيف كرقمة بالشكل الطولي البيضوي الذي كان شائعاً لدى صانعي الأعواد في إسطنبول. كما تم وضع قشرة من الخشب نفسه على جهة التفاف الذراع اليمنى على الآلة، لحماية الصدر من رطوبة الجسم.
الفرس المصنوع من خشب الورد يعد عريضاً وسميكاً نسبياً، وربما كان ذلك لجعله يتحمل قوة شد الأوتار. وهذا الشكل أيضاً كان شائعاً لدى صانعي الأعواد في إسطنبول.
يتكون زند العود من قشرة خشب العود من جهتي الأمام والخلف. كما يوجد قطعة طولية صغيرة من الخشب الخفيف على كلا جانبي الوجه الامامي لزند العود تصل إلى نهاية زند العود بدلاً من الاستمرار لغاية القسم الموجود على الصدر.
كما أن علبة المفاتيح أو البنجق تشبه تلك المستخدمة في الأعواد المصنوعة في إسطنبول. هي مائلة بشكل حاد على غير المألوف باتجاه الطرف الخارجي، حيث تنتهي بزخارف على بأشكال حيوانية. وتحتوي علبة المفاتيح على 11 مفتاحاً مصنوعة من خشب الأبنوس.
الظهر أو القصعة مصنوع وفقاً للأسلوب التركي المتناسق ومن قطع طولية من خشب الورد الهندي الممتاز. وهو عبارة عن شكل نصف دائري بمقطع عرضي، ويزيد بمقدار 2 سم في العمق بسبب وجود ضلعين على الحافة الخارجية. وبسبب كون العمق يبلغ 18 سم وعرض الصدر 32 سم في أعرض نقطة فإنه يعتبر ضيقاً نسبياً (32/2 = 16+2 = 18). يبلغ طول الوتر المهتز 60 سم. لقد عمل “محمد علي” بعناية وحرص على جميع التفاصيل والنواحي المتعلقة بعملية الصناعة. وعلى الرغم من بساطة الشكل إلا أن جميع التفاصيل قد تم تنفيذها بدقة.
ويشكل هذا العود دليلاً على دقة وحرفية الصناعة في بغداد، كما يشكل أيضاً دليلاً على الشبكة التي ازدهرت المدينة من خلالها، وعانت منها أيضاً. يمكننا ملاحظة هذا الأمر في عدد من الأجزاء والتي تدل كلها على الشخصية المميزة لـ “الشريف محي الدين حيدر” (1892 – 1967) ابن “علي حيدر باشا” (1866 – 1935) الذي كان أميراً على مكة والمدينة المنورة في الفترة ما بين 1916-1917 ولكنه أمضى معظم حياته في إسطنبول. درب الشريف محي الدين نفسه على التقاليد الموسيقية التقليدية للمدينة، وأصبح واحداً من أشهر عازفي ومؤلفي موسيقى العود وفقاً للأسلوب المحلي. كما درس آلة “التشيلو” وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 1924 حيث أمضى 8 سنوات هناك وتأثر بشكل كبير بالعازفين والموسيقيين المشهورين في ذلك الوقت. وقد اشتهر بقيامه بإعداد مؤلفات عن العود وعزفه بأساليب مكنت من التوسع في نطاق استخدام العود ليصبح أداة مهمة في أداء العزف المنفرد.
إن الوجه الامامي لزند العود لهذه الألة التي صنعها “محمد علي” يمثل نتيجة التطورات الحاصلة، وذلك لكونه يمتد إلى ما بعد زند العود وصولاً إلى حافة الكبيرة، مثلما هو الحال في آلة “الغيتار”. تمت زيادة المدى أكثر من المتعارف عليه تقليدياً بهذا الشكل وأصبح هذا الأمر شائعاً، ولكن طبقة القشرة الإضافية وضغط الأصابع قد حدّ بشكل كبير من الإمكانات الاهتزازية لـ الصدر. وقد حاول العازفون وصانعو العود فيما بعد التغلب على هذه المشكلة وزيادة قوة صوت الآلة من خلال زيادة قوة شد “توتر” الأوتار وغير ذلك من الأساليب. وتشير التسجيلات، وأعمال “جان كلود تشابريه” (1976/1996)، إلى أن “سلمان شكر” نفسه قام بزيادة بوضع قوة شد كبيرة على الآلة بضبطها من جي قرار إلى جي جواب، تماماً مثلما فعل “جميل بشير” (كما قام بعمل الأوتار من وتر بم منفرد في الوضعية الأدنى، وجعل الترتيب 2-3-4-5-6-1).
إن الروايات التاريخية عن “سلمان شكر”، سواء التي نشرها “جان كلود تشابريه” أو المتداولة بين الناس، تصنفه كخليفة لأستاذه “شريف محي الدين” بينما يعتبر الآخرون (الأخَوان بشير وجميل غانم) بأنهم قد أسسوا لأنفسهم مسارات خاصة بكل واحد منهم. مع أنه لا يتضح من تسجيلات (Decca) المتوفرة لدينا ما إذا كانت طريقة عزف “سلمان شكر” تندرج ضمن أسلوب “شريف محي الدين” الخاص بمدينة إسطنبول، إلا أن مؤلفاته طويلة بشكل استثنائي ومبتكرة بشكل رسمي من موسيقى الآلات العربية في تلك الفترة، ما يظهر اهتمامه بتجربة التأليف. كما أن التسجيلات الخاصة التي ظلت سليمة تشهد على إتقانه للمهارات الأساسية الخاصة بالمؤلفات العثمانية، كما أن استكشافه لطرق مداعبة الأوتار يدل على التزامه بالتوسع في إمكانيات الآلات أكثر فأكثر. أخيراً، يبدو أنه قد عمل كمساعد لـ “شريف محي الدين” في معهد الفنون الجميلة منذ 1947، وأنه قد عمل هناك منذ 1960 كرئيس لقسم الموسيقى، لذلك فقد كانت بينهما روابط تربوية ومؤسسية. وعندما تمكن “سلمان شكر” من الاتصال بشقيقة “شريف محي الدين” في 1989، بعد أكثر من عقدين على وفاته، أخبرته بأنها ترحب به في حال أحب أن يحصل على واحد من الأعواد التي كانت لمدرسه السابق.
في هذه المرحلة، لا يمكننا معرفة أي واحد من الأعواد هو الذي اختاره، ولكن الواضح أنه لم يكن من الأعواد المفضلة جداً لدى “شريف محي الدين” والتي أوصى بها لصالح المتاحف في تركيا. من المحتمل أن يكون أحد أعواده التي صنعها “الأسطى علي” حيث تظهر واحدة من هذه الآلات في تسجيل قام به “سلمان شكر” حيث توحي الصور بأنه كان لديه آلات موسيقية أخرى. الأمر المهم في الهدية هنا هو أن “سلمان شكر” كان متحمساً للغاية لحصوله على هذه الآلة من مدرسه السابق لدرجة أنه قام بمنح العود الخاص به، والظاهر أنه المفضل لديه، لصديقه ومعاونه “سعد جادر”. لهذا السبب، فإن هذا العود المبين هنا بقي في لندن في المجموعة الخاصة لهذا الصديق. في المقال التالي، سوف نستكشف بمزيد من التفاصيل كيف تم الكشف عن حياة هذا العود في المملكة المتحدة بينما كان لا يزال بحوزة “سلمان شكر”.
شكراً للسيد “سعد جادر” للسماح لنا بالاطلاع على العود الخاص به وعلى مجموعة ا لتسجيلات الخاصة وذكرياته عن “سلمان شكور”. والشكر موصول للسيد “فرانشيسكو ايانوزيلي” للسماح لنا بالاطلاع على أرشيف البحث الخاص به حول الموسيقى العراقية.