ريتشل بيكلز ويلسون
ما زالت قصة “زرياب” تسحر ألباب الكثيرين. وتقول القصة بأن رجلاً وصل في القرن التاسع إلى قرطبة قادماً من بغداد حيث أحضر معه الملابس الأنيقة وقصات الشعر ومزيل العرق وآلة موسيقية حديثة تسببت في موجة من الابتكارات تضمنت العود المصنوع على الطراز الأوروبي وفي نهاية الأمر ظهور “الغيتار”. ولكن قصة “زرياب” تتضمن الكثير من التأليف والتلاعب حيث تم تسييسها من قبل المؤرخين الذين كانوا يروجون لسلالة من العائلات لتعزيز الحنين إلى (أسطورة) “الأندلس” (رينولدز 2008 & دافيلا 2009). لقد كانت شبكات التجارة بين القارات في تلك الفترة غنية ومعقدة وساهمت في دعم مجموعة من الموسيقيين من الرجال والنساء وكذلك في دعم العديد من الابتكارات والتحولات التي حدثت على مدار عدة قرون. لذلك فإن علينا أن نتريث ونأخذ خطوة للخلف بعيداً عن بطولة “زرياب” الأسطورية.
إن الرحلات الأحدث لآلات العود إلى أوروبا وأمريكا الشمالية تمثل تحدياً جديداً للمؤرخين. كيف لنا أن نروي قصص الرحلات المتجهة نحو الغرب لهذه الآلات في القرن العشرين؟ يمكننا البدء بهذا العود الموجود في لندن والذي صنعه “محمد علي” البغدادي وعزف عليه العراقي “سلمان شكر” (العود موجود في المقالة الأخيرة وتوجد له صورة في الأسفل).
وصل هذا العود إلى إنجلترا مع “سلمان شكر” في منتصف السبعينات من القرن العشرين (وقد مكث هناك لغاية 1990 بينما بقي العود في لندن). ويبدو أن سافر مبدئياً إلى “جامعة درهام” حيث أعفي – على سبيل الإجازة – لمدة سنة من منصبه كبروفسور للعود في معهد الفنون الجميلة في بغداد. وكان له اتصال مع مدير مركز دروهام للدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، السيد جون إيه، هايوود، حيث وضعا خطة للتعاون فيما بينهما. كان من المقرر أن يؤدي هذا التعاون إلى عدة نتائج منها تقديم دراسة عن الرسالة الشهيرة لـ “صفي الدين الأرموي” (1230-1294 م) المعروفة باسم “كتاب الأدوار” (بوين جوونز 1975 Bowen-Jones et al 1975).
لم يتضح لنا ما تمخض عنه من مناقشاتهم الدراسية، ولكن بالتأكيد كانت هناك نتيجة موسيقية واحدة عبارة عن كونشيرتو للعود والأوركسترا. وقد نُسب هذا العمل إلى “سلمان شكر” ولكن تم الإعلان عنه على أنه من تأليف “جون هايوود” عندما تم الترويج له في لندن في 1983 حيث ورد في أحد النصوص:
” سمفونية مدينة لندن تقدم لكم كونشيرتو العود لجون هايوود، ويؤدي فيها سلمان شكر العزف المنفرد، كما يعزف بعض فقرات العزف الفردي (التايمز، 12 نوفمبر 1983ـ صفحة 7)”
كما أشار إعلان قصير في “ميوزيكال تايمز” إلى نفس المضمون:
من “مذكرات لندن في نوفمبر” – ميوزيكال تايمز 124/1688 (أكتوبر 1983)
إن سمفونية مدينة لندن، والتي لا تزال نشطة كأوركسترا لغاية اليوم، قد تم تأسيسها على يد قائد الفرقة (ريتشارد هيكوكس Richard Hickox) في 1971. وفي 15 نوفمبر 1983 كان برنامج الأوركسترا انتقائياً حيث اشتمل على مقطوعات لـ “هايدن” و “موزارات” ومقطوعة حديثة من تأليف الإنجليزي “باول باتيرسون”. ويظهر التحقيق المفصل في مجلة الموسيقى المعاصرة “تمبو Tempo” بأن كونشيرتو العود كان في الواقع عبارة عن تعاون مشترك بين “هايوود” و”شكر” بهدف “تجسير الفجوة بين الموسيقى العربية الكلاسيكية والموسيقى الأوروبية”، على أمل تشجيع بذل المزيد من المحاولات في نفس الاتجاه (هيد 1984 Head ). بيد أن كاتب هذا “التحقيق” لم يجد الكثير مما يستحق المدين بعد أن استمع إلى الكونشيرتو. لقد كان أسلوب “هايوود” قديماً وريفياً، بينما بدت آلة العود والعازف عليها غريبين على المكان.
“لسوء الحظ، فإن النتائج جعلت العود يبدو كطير غريب محبوس في قفص، وقد عزز هذا الانطباع عدم ارتياح العازف سلمان شكر للعزف مع الأوركسترا، وهو أمر كان بادي الوضوح. (لم يساعده تضخيم صوت العود الذي حرم الآلة من رقتها وتسبب في إبراز صوت انزلاق الأصابع وصدور أصوات قوية عن الأوتار. إن تضخيم صوت “الكلافيكورد” و”الهاربسيكورد” “من أنواع البيانو” يعد ضرباً من ضروب التزييف، فلم يجب علينا تقبل تضخيم صوت العود والسيتار؟). وكانت المفارقة التاريخية أوضح ما تكون في الحركة الثانية حيث تم القيام وبكل صفاقة بدمج أصوات الأوركسترا الإنجليزية، والمستقاة من موسيقي “فوغان-ويليامز” مع عزف منفرد أو كادنزا (cadenza) على الصوت المميز للعود. وبالتالي فإن النتيجة النهائية كانت بمثابة نوع من “الاستشراق” البعيد تماماً عن ما كان المؤلف الموسيقي يفكر به عندما قام بتأليف المقطوعة”.
ونظراً لسمعة ومكانة سمفونية مدينة لندن ومركز ساوث بانك لندن، فقد كان هناك العديد من التحقيقات في جميع الصحف الوطنية الرئيسية. لكن لم يكن هناك أي كلام جيد عن كونشيرتو العود. فقد كتبت إحدى التحقيقات أنه كان عبارة عن: “تفاهم موسيقي عربي-أوروبي ولد ميتاً: قشرة غربية كلاسيكية مصنوعة بشكل فج وتحتوي على ما لا يعدو مجرد زخارف عربية هجينة وغير أصلية (فنش 1983 Finch)” بينما نوه أحدهم إلى أن “سلمان شكر” قد أُثقل بكونشيرتو مبتذل ودون المستوى تم عمله لغرض محدد بواسطة “جون هايوود”. مع الخطوة المتمثلة في تضخيم صوت الآلة اللطيفة بشكل مبالغ فيه، كنا نستمع إلى ما يشبه موسيقى فيلم درامي رديء عن الشرق الأوس” (بلايث 1983). أحد الكتاب امتنع عن كتابة أي شيء باستثناء القول بأنه يشك في أنه “قد يفكر في تكرار التجربة” (أفراميان 1983). لم يكن “هيد Head” متفائلاً حول مستقبل أي تعاون من هذا النوع، ونوه إلى أنه عندما عزف “سلمان شكر” منفرداً فإن ذلك جعله يشعر بشكل أفضل بوجود رابط أو جسر بين الشرق والغرب. وعلى نحو مشابه، نوه “فنش Finch ” إلى أن مهارة “شكر” المفعمة بالخيال في ضبط إيقاع الملزمة الموسيقية (melodic melisma) والدورات الإيقاعية جعلت من أداءه المنفرد القصير أفضل لقطة في هذا المساء غير المتناسق (فنش 1983 Finch). بالنسبة لـ (بلايث Blyth) فقد كان هناك لحظة تعويض في الكونشيرتو عند قام “سلمان شكر” بتقديم (كادنزا cadenza) بالحركة البطيئة وهو ما دل على دقة اللمسة عند هذا العازف ومدى الحزن العميق الذي يمكنه أن يولده من آلته.
وبغض النظر عن فشل هذه القطعة بالذات، فقد كان واضحاً أن جهود “جون هايوود” قد عادت بالفائدة على “سلمان شكر”. فبصفته مديراً لمركز درهام للدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، كان “هايوود” أحد المنظمين الرئيسيين لأول مهرجان للموسيقى الشرقية في درهام والذي أقيم في 1976 حيث قام “سلمان شكر” بالعزف فيه لمرة على الأقل. لقد كانت الجامعة تتمتع بتراث قوي فيما يعرف باسم “الدراسات الشرقية” وتعاونت في هذا الحدث مع متحف غلوبينكيان للفن والآثار الشرقية، وكذلك مع قسم الموسيقى في إطار السعي لتطوير الوعي الموسيقي إلى ما هو أبعد الخبرات الحالية التي تركز على الجانب الأوروبي (تايلور 1976). وقد حصل المهرجان على تمويل من اليونسكو، ومجلس الفنون، و”نورثرن آرتس Northern Arts “، وغيرهم بحيث تمت دعوة عدد من العلماء المميزين في مجال الموسيقى من أماكن بعيدة مثل إيران وأميركا الشمالية واليابان.
من المراجعة يظهر أن “سلمان شكر” قدم ثمرة تعاون أوروبي آخر في هذه المناسبة، ونقصد بهذا (خماسية العود oud quintet) (موريس 1976). قد تكون هذه “جنية الجبل The Mountain Fairy ” والتي بدأت كقطعة موسيقية للعود ولكن في سنة 1966 اكتسبت أجزاء من (رباعية وترية string quartet) وضعها عالم الموسيقى العرقية/موسيقى الشعوب (ethnomusicologist) (فاتسلاف كوبيكا Vacslav Kubica 1926-1992). عاش كوبيكا في بغداد بين 1960-1962 و1964-1968 لأن زوجته “بوزينا كوبيكا” كانت تعمل هناك كعازفة “كلارينيت” وكان كلاهما من تشيكوسلوفاكيا، والتي كانت وقتها من دول الكتلة الشرقية، (يوركوفا 2015). وفقاً لـ “هايوود” فإن هذه النسخة من الخماسية “جنية الجبل The Mountain Fairy ” لم تقدم “حلاً مثالياً” لمشكلة دمج الإيقاع الغربي مع مزج الألحان في المراثي العربية، بينما النسخة الفردية الأقصر تدوم لوقت أقل (هايوود 1980). لكن هذا الأمر لم يمنع “سلمان شكر” و”كوبيكا” من القيام بمزيد من المحاولات، إذ تعاونا سوياً في أعمال أخرى لخماسيات العود مثل ( Scherzo caprice – Quasi Concertina – Rondo and Variations) التي تم أداؤها في معهد غوته في بغداد.
في حالات التعاون هذه يمكننا أن نرى بوضوح مدى انفتاح “شكر” على التقاليد الأوروبية وحرصه على تطوير العود باتجاه الغرب. وغالباً ما يأتي المعلقون على ذكر هذه الاهتمامات لكي يقارنوا “شكر” بأستاذه “شريف محي الدين حيدر”، وخصوصاً في مجال تقنيات عزف العود. ولا يمكن إنكار أن “غراميات درهام Durham Romance ” تقدم نموذجاً عن تجاربه المتعلقة بالبنية والتحديات المادية، ما يؤكد على وجود هذا الاهتمام لديه.
مقتطفات من عمل “شكر” “غراميات درهام Durham Romance “
بالنسبة للسؤال التاريخي الأشمل – وبالأخص ما يتعلق برحلة العود إلى أوروبا – ستكون المقارنة مع حالة “منير بشير” المشابهة أكثر فائدة. فكما رأينا، استفاد “شكر” بشكل كبير من مساعدة المستعرب “جون هايوود”، بينما طور “بشير” من مسيرته الأوروبية بفضل دعم العالم “سيمون جارغي” البروفيسور في جامعة جنيف في سويسرا. لقد وجد كل من “شكر” و”بشير” حلفاء لهم في أوروبا وأتيحت لكليهما فرص التعاون والتفاوض والترويج لشخصيهما. وعلى الرغم من أهمية التعاون على الصعيد المحلي، فقد استفاد كلاهما كذلك من الجهود الثقافية الكبيرة المبذولة من قبل الحكومة العراقية. ويمكن تتبع هذا الأمر من خلال المركز الثقافي العراقي الكائن في لندن والذي كان يشرف على إدارة الفعاليات الموسيقية في أماكن راقية من 1977 ولغاية 1983.
إن هذا الدعم المقدم من حكومة العراق كان بلا شك مثار اهتمام المؤسسات البريطانية، ولكنه لم يكن خالياً من التعقيدات. وقد بين تعقيب “فنش” على الحفل الموسيقي للعود قلقها الواضح بخصوص هذا الأمر:
“إن وجود هيئة عمياء دائماً ما يشكل خطراً، ويكون الأمر أكبر من ذلك عندما تكون جزرة الدعم المادي الكبير المقدم من بلد كالعراق متدلية أمام مجموعة من الأشخاص الذين يحتاجون بشدة للتمويل لتقديم الدعم لأعمال جديدة تستحق الثناء وإن كانت غير موثوقة”
إنه لمن المحزن فعلاً أن نقرأ اليوم لناقد موسيقي كبير عبارة من قبيل “بلد مثل العراق”. لقد كان موقف المملكة المتحدة السياسي الرسمي من الحرب العراقية الإيرانية محايداً، لذلك فإن “فنش” ربما كان لديه نوع من الانعزال عن المنطقة. ولكننا نعلم جيداً الآن أن رئيسة الوزراء “ثاتشر” كانت تشرف على تزويد نظام صدام حسين بالمعدات من نهاية 1980 ولغاية 1990. وفي خضم هذا الأمر، يبدو أن الحفل الموسيقي غير الناجح للعود كان نتاج ما أطلقت عليه “آنا تسنغ” (ميدان العلاقات الحرجة) (تسنغ 2004). لقد تم تأليف هذه المقطوعة بسبب تضافر عدة مصالح. فقد كان “هيكوكس” يريد تأمين تمويل لتطوير الأوركسترا الخاصة به، بينما كان اللغوي “هايوود” يأمل بتأليف قطعة موسيقية يتم أدائها أمام الجمهور، وكان “شكر” يريد أن يعزف في حفل موسيقي عالمي، أما الحكومة العراقية فكانت تريد الترويج لبلدها في أوروبا. وقد كانت هذه المصالح غير منسجمة مع بعضها البعض، وتطلب الأمر عدة سنوات أخرى قبل أن تجد آلة العود مناخاً إنجليزياً أكثر ملائمة يتم تقديمها فيه بشكل أكثر إقناعاً.
المراجع
.Acton, Charles 1976. ‘Classical Arab lute music’, The Irish Times, July 6, p.9
.Aprahamiam, Felix 1983. ‘Light from new stars’, The Sunday Times, November 20, p.36
.Bowen-Jones, Howard, Laurence P. Elwell-Sutton, Clement H. Dodd, Walid N. Arafat, B.S.J. Isserlin and Derek Hopwood, 1975. ‘Work in Progress in British Universities’, Bulletin (British Society for Middle Eastern Studies) 2/1, pp. 23-39
.Blyth, Alan 1983. ‘Salman Shukur, Hickox’, The Daily Telegraph, November 16, p.13
.Davila, Carl 2009. ‘Fixing a Misbegotten Biography: Ziryāb in the Mediterranean World’, Al-Masāq 21:2, pp.121-136
.Finch, Hilary 1983. ‘CLS/Hickox’, The Times, November 16, 1983, p.10
.Haywood, John 1980. ‘Salman Shukur’, Ur 3 (May-June) pp.40-43
.Head, Raymond 1984. ‘Patterson, Haywood, Shukur’, Tempo 148 (March), p. 28
.Jurkova, Zuzana, 2015. ‘Bohemian Traces in the World of Ethnomusicology’, in This thing called music : essays in honor of Bruno Nettl, edited by Victoria Lindsay Levine and Philip V. Bohlman. Lanham, Maryland : Rowman & Littlefield
.Reynolds, Dwight F. 2008. ‘Al-Maqqarı’s Ziryab: The Making of a Myth’, Middle Eastern Literatures 11/ 2 (August), pp.155-168
.Schiffer, Brigitte 1976. ‘The World of Islam in Word and Sound’, The World of Music 18/3, pp. 53-55
.Taylor, Eric 1976. ‘The Durham Oriental Music Festival’, The Musical Times 117 (August), p. 652
.Tsing, Anna Lowenhaupt 2004. Friction: An Ethnography of Global Connection. New Jersey: Princeton University Press