جوناثان شانون
قابلتُ “منير” في المقهى القريب من برج “غلطة” في إسطنبول. كان يحمل غيتار البس (bass guitar) يتدلى من كتفه، ويحمل في يده حقيبة ذات شكل مألوف: عودي الجديد! كنتُ متلهفاً لرؤيته والعزف عليه، وبعد أن انتهينا من شرب الشاي، توجه إلى التدريب بينما أسرعت نحو البيت لدوزنة عودي الجديد والعزف عليه، هذا العود له قصة مميزة واستثنائية، وهاكم قصة عودي الدمشقي:
لقد تعرفتُ على صانع العود والعازف حسين السبسبي منذ قيامي بأول بحث لي في سوريا في بداية 1996 وتوطدت علاقتنا وتعرفت عليه وعلى عائلته عن قرب. يعمل أخوه علي في صناعة وتصليح آلات العود في حماة وقد وثقتُ به إلى درجة أني عهدت إليه بمهمة العناية بآلة العود التي أملكها والتي صنعها “حنا النحات” في 1925، كما قمتُ باقتناء واحدة من الآلات الممتازة التي قام بصنعها في سنة 2000. ركز حسين وابنه محمد – وهو عازف ماهر أيضاً – اهتمامهم في السنوات الماضية على صناعة آلات العود وقاما بإنشاء ورشة خاصة بهما في دمشق.
إن حياة الموسيقيين ليست سهلة أبداً في سوريا، ولكن حسين تمكن – من خلال أداءه للمعزوفات والعمل في الخارج وكذلك من بيعه لآلات العود – تمكن من توفير مبلغ كاف من المال لشراء منزل وإنشاء ورشة وحتى اقتناء سيارة له وسيارة لابنه. إن الكثير مما يعتبره بعضنا أمراً مفروغاً منه في الغرب كان بمثابة إنجاز بالنسبة له. وفي الوقت الذي زرتهُ فيه آخر مرة في أواخر 2008 كان يبلي بلاءً حسناً، حيث كانت سوريا تحمل الكثير من الوعود بالرخاء، للبعض على الأقل.
بعد أن غادرت، بقيت على اتصال مع حسين من خلال البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. وبدأ بإرسال الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بآلات العود التي يصنعها، كما كان يقوم بوضعها على الفيس بوك. عندما بدأت الأزمة السورية في مارس 2011 كانت فيما بيننا رسائل تواصل حذرة، حذرة لأن الوضع كان حساساً في ذلك الوقت، وبسبب ضعف مكانة الموسيقيين وغيرهم من السوريين في الترتيب الاجتماعي. وبعد تبادل التحية في بداية 2013، توقف الاتصال فيما بيننا. كتبتُ لحسين على الفيس بوك والبريد الإلكتروني، وقمتُ بالاتصال به لكن بلا جدوى.
أخيراً، وفي مارس 2013، تلقيت اتصالاً منه. تعرض بيته في ضاحية “برزة” للقصف للمرة الثانية وانهار المبنى المكون من عشرة طوابق وهم بداخله. تمكن حسين وابنه من النجاة ولكن جراحاتهم الخطيرة تطلبت شهوراً عديدة من العلاج في أحد المشافي المحلية. ومع احتدام شدة الحرب، عانت المواد الطبية من نقص شديد وكلما سألته عن حاله كان يجيب “الحمد لله نحن على قيد الحياة”. هذا التفاؤل، في وجه الكوارث هو ما حدد الخطوة التالية التي قام بها حسين. عند مغادرته المشفى، قام حسين وابنه بنقل مكان سكنهما وورشتهما إلى مكان آخر وأعادا البدء في العمل الخاص بهما في صناعة الآلات الموسيقية الوترية. هذا التصميم والإصرار يجسّد المعنى الحقيقي للمرونة والقدرة على البقاء.
يقوم حسين بإرسال بعض صور الآلات التي يقوم بصنعها لي من وقت لآخر. هذه الآلات تتراوح بين الفرس أو الغزال الرحال إلى الآلات ذات الفرس (الغزال) التقليدي وحفر الصوت المصمتة (القمرية) وبعضها الآخر بخلفية تجريبية وأنواع من الخشب النادر.
كما قاما بصنع بعض آلات العود ذات النمط الدمشقي القديم للأخوين “النحات” بفتحة صوت واحدة أو بثلاث فتحات.
كوني من المعجبين بالأعواد الدمشقية التقليدية، قمتُ بإخباره في بداية 2015 (على سبيل المزاح والجد معاً) بأني أريد الحصول على واحدة من هذه الأعواد (دون أن أعرف متى قد تتاح لي الفرصة للعودة إلى سوريا لأخذه). أخبرني أنه سيقوم بصنع واحد لي بنكهة دمشقية خاصة، حيث كان يعرف مدى حبي للمدينة (على الرغم من عملي في مدينة حلب، فقد شعرت دائماً بأن دمشق هي موطني). كان يعرف جيداً ما نوع الخشب الذي يجب أن يستخدمه وما هو شكل الزينة والزخارف التي أرغب بها. تكرت الأمر عند ذلك الحد بعد أن فكرت في الأمر. كان الموضوع مجرد “حكي” بين صديقين.
بعدها بستة أشهر وصلتني رسالة عبر “الواتس اب” بأن العمل جارٍ في صناعة آلة العود الخاصة بي.
ثم قام بعد ذلك بإرسال مقطع فيديو وهو يعزف على ذلك العود، كان الشكل والصوت رائعين. لم أتفاجأ ولو للحظة بجمال هذه اللفتة وقمت بسؤاله عن الآلة الموسيقية. قال بأن الظهر والدعامات/الجسور مصنوعة من خشب الجوز الذي أخذه من دعامات سقف البيت الذي انهار في دمشق القديمة (نتيجة الإهمال لا الحرب). يبلغ عمر هذا الخشب ما لا يقل عن 80-100 سنة، حسبما يقول حسين.
أما لوحة الصوت أو السطحة فقد كان لها قصة أخرى مثيرة للاهتمام، فعندما كان يمشي في أحياء المدينة القديمة رأى حلاقاً يستخدمها ليجلس عليها الأطفال لرفع مستوى رؤوسهم على الكرسي. تفاوض مع الحلاق على شراء قطعة الخشب التي تبين أنها من خشب الأرز مع حبيبات عريضة. ويزعم حسين بأن الخشب يعطي صوتاً دمشقياً للآلة، بل وحتى ينفث فيها عبقاً وحساً دمشقياً. أما النمط الأقدم، ذي الزخارف البسيطة وفتحة الصوت الواحدة والدوزنة التقليدية (من سي قرار إلى سي جواب) جعل من الآلة مثالية، تجسيد فعلي للروح السماعية/الصوتية لمدينة دمشق.
عندما عرضتُ عليه أن أدفع له ما يشاء مقابل هذه الآلة أجابني بأنه يتشرف بتقديمها لي كهدية وبأنه لن يقبل بأخذ أي مبلغ مقابل ذلك. المشكلة الوحيدة كانت في كيفية توصيل الآلة لي في نيويورك. قال بأنه سيقوم بالترتيبات اللازمة لشحنها بواسطة (دي اتش إل) عبر دبي، ولكن وجود العقوبات كان يعني بأنه لا يسمح بعبور بضائع من دمشق إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والشركات البديلة لم تكن موثوقة. لذلك يجب على العود أن ينتظر في دمشق حتى يحين الوقت الذي أتمكن فيه من القدوم والحصول عليه (ولم يكن لدي الكثير من الأمل بإمكانية حصول هذا الأمر) أو لحين يتوفر شخص يتمكن من السفر من سوريا إلى أوروبا أو الولايات المتحدة ويكون قادراً على جلب العود معه، كفرصة ذات احتمال ضئيل.
تناسيت هذه الفكرة وتخليت عن التفكير في هذا العود. ولكن حسين لم يفعل! إذ لم يكتف بإرسال صور وفيديوهات عن آلات العود الجديدة التي كان يصنعها، بل كان يرسل كذلك صوراً لآلة العود الخاصة بي. أذكر أحد الفيديوهات التي أخذني حسين من خلالها في جولة افتراضية في ورشته الدمشقية، حيث قام خلال هذه الورشة بتعريفي بالعمال والتركيز على الآلات والمعدات المستخدمة في الورشة (بما فيها آلات متطورة للقص بواسطة الليزر) حيث عرض عليّ مجموعة من الآلات في مختلف مراحل التصنيع. في إحدى الزوايا وجد “العود” الخاص بي، حيث قام بسحبة من علبته وعزف عليه ليسمعني. شعرتُ كأني أب يتواصل عن بعد مع ابنه الذي لم يلتق به بعد! “سوف تحصل عليه يوماً ما” قال لي حسين، أجبته (إن شاء الله).
ازدادت الحرب اندلاعاً، وتعرضت مناطق من دمشق للهجوم، ولكن يبدو أن الحياة كانت تسير على ما يرام بالنسبة لحسين والكثيرين غيره في العاصمة. فقد كانت ورشته تقوم بالكثير من العمل، وسرعان ما تمكن من شراء شقة أخرى في حيه القديم، ما شكل دلالة أخرى على قدرته على الصمود وتفاؤله، أو التصميم والقوة، في وجه حالة عدم الاستقرار الكبيرة. في ربيع 2016ن كنتُ في إسطنبول للقيام ببعض الأبحاث الميدانية عن الموسيقيين السوريين. وكعادته، كان حسين يرسل لي التحية الصباحية لكل يوم جمعة، حيثُ كنت أرد عليه بعد ساعات نظراً لفارق التوقيت بين دمشق ونيويورك. ولكن في تلك الجمعة رددتُ على تحيته فوراً بالقول “صباح الخير من إسطنبول!” تفاجأ حسين وشعر بالحماس لكوني قريباً منه، وسألني فوراً إذا كان لدي عنوان بريدي لكي يرسل لي “العود” نظراً لعدم وجود عقوبات على البضائع السورية المتوجهة إلى تركيا. سألتُ صديقي “منير” ووافق على استلام العود في منزله في حي (قاضي كوي Kadıköy). بعد عدة أيام تلقيت رسالة بالبريد الإلكتروني من صديقي “منير” تظهر صندوقاً خشبياً يحتوي على آلة العود الخاصة بي ويظهر في الصورة كلبه “باتي” وهو يقوم بشمّ الصندوق. لقد وصلت “العود” لم يكن بإمكاني الانتظار لرؤيته والعزف عليه.
ركضتُ باتجاه منزلي في حي (تارلاباشي Tarlabaşı)، وصعدت الدرج قفزاً واندفعتُ إلى غرفة المعيشة، وقمتُ بفتح الصندوق بحرص وأخرجتُ “العود”. أول ما خطر ببالي أن أقوم بالعزف عليه فوراً، إلا أني تذكرتُ كلمات حسين، لذلك قمتُ بوضع أنفي على القمرية أو فتحة الصوت وأخذتُ نفساً عميقاً. آه، روح دمشق، مع بعض الأوتار الجديدة كان العود يبدو رائعاً ونغمات غنية ودافئة حركة سلسلة واستجابة رائعة. كما أنه يتناسب مع وضعية الذراعين كما لو أنه مصنوع وفقاً خصيصاً حسب الطلب، وهو فعلاً كان كذلك في هذه الحالة. أثناء مغادرتي لاسطنبول، سافر معي هذا العود الرحّال إلى أماكن كان العديد من السوريين يتمنون الذهاب إليها ولكنهم لم يتمكنوا، أو توجب عليهم المخاطرة بأرواحهم للوصول إليها: اليونان، إيطاليا، وفرنسا، والآن الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما أعزف عليه الآن أسمع أصوات الحزن والكآبة لمدينة وبلد مزقها الانقسام والعنف. ولكني أسمع كذلك أصوات الأمل بحصول المصالحة ومستقبل أفضل. قد تكون هذه أصابعي هي التي تعزف مشاعر قلبي الذي يتمسك بالأمل والتفاؤل رغم الشعور بالحزن، ولكن يظل هناك روح من دمشق في هذا الأمر.
الصانع: مركز العود العربي – سوريا، فرع دمشق.
التاريخ: يونيو 2015
الطول: 84 سم
طول الوتر المشدود: 60 سم
العرض: 37 سم
العمق: 17 سم
المواد:
لوحة الصوت أو السطحة: خشب الأرز المستعاد من خشب قديم
الجهة الخلفية: خشب الجوز المستعاد من خشب قديم
(المراية fingerboard) والمفاتيح/الملاوي (Pegs): خشب الورد
الأوتار: لا بيلا (La Bella)