ريتشيل بيكلز وكريم عثمان حسن
تظهر صور جميل بشير وهو يعزف على العود أنه كان لديه علاقة جسدية عميقة مع آلة العود الخاصة به. كان غالباً ما يقوم بالالتفات نحو العود ويحني ظهره، أو يقوم بسحبه عالياً باتجاه وجهه، حتى مع رفع زند العود ليجعل العود مائلاً بشكل حاد وغريب.
مثل بقية الآلات التي تضمها مجموعته، فإن هذه الآلة التي نخص بها هذه المقالة صُنعت على يد “الأسطى علي الياس علي خان بابا” (1904-1960) وابنه محمد علي (1930-2002). لقد كانت ورشتهما منذ ثلاثينيات القرن الماضي من الموردين المعتمدين للعود البغدادي الذي يستخدمه الفنانون الموهوبون، وفي الوقت الذي صنع فيه هذا العود في فترة الخمسينيات من القرن الماضي (ربما تشير اللصاقة الموجودة والعائدة لسنة 1956 إلى عملية تصليح) فإن جميل بشير كان من الفنانين الموهوبين المشهورين في ذلك الزمان. وقد سبق أن ناقشنا أحد آلات العود التي صنعها محمد علي في مقالات عن “سلمان شكر“.
الجسم مصنوع من 21 قطعة طولية من خشب الورد المتقن الصنع تفصل بينها قطع من خشب القيقب. وعلى الرغم من أن خشب الورد ثقيل نسبياً إلا أن هذا العود خفيف جداً، ما يعني أن الجسم رقيق للغاية.
حجم الآلة أصغر من معظم الآلات العربية في وقتها، ولكن الصدر أعرض بـ 2 سم من الآلات التي كانت تصنع وفقاً للنسب الكلاسيكية المتعارف عليها (بعمق 17.5 سم وعرض 37 سم). لذلك فإنه من المحتمل أنه قد صُنع وفقاً لطلب معين من زبون. وليس من الصعب أن نتخيل بأن الآلة الأصغر حجماً قد يكون لها مزايا بالنسبة لبشير: حيث أن العود المصنوع من قبل صانع بغدادي آخر (يوسف عبد الرزاق العواد) يبدو ضخماً جداً مقارنةً بجسمه.
من المحتمل أن يكون الأسطى علي قد أخذ العود من مدرسة “مانول” كنموذج أو موديل، نظراً لأن هذه الآلات كانت أصغر من معظم الآلات العربية. وربما يكون قد استخدم الموديل الأكثر شهرة لـ “مانول” الخاص بشريف محي الدين والذي تم استخدامه في الكثير من التسجيلات (ومحفوظ الآن في متحف غالاتاه ميفليفيهان Galata Mevlevihane Museum في إسطنبول). إن التفاصيل المتعلقة بهذه الآلة تعزز من هذا الشك. على سبيل المثال، فإن طول الوتر المهتز يبلغ 58.5 سم، وهو الطول المعياري في نموذج “مانول”، كما أن شكل وأبعاد الفرس توحي بأن النموذج المستخدم هو نموذج “مانول”، بالإضافة إلى خط محيط الصدر المصنوع من صحيفتين من خشب التنوب على الأقل. كما أن فتحات الصوت أصغر بقليل مما هي عليه في الآلات السورية والمصرية، والشعيرات الخشبية المحيطة بفتحات الصوت ملونة بالأسود والأبيض من النوع الشائع في آلات العود المصنوعة في إسطنبول. يمكن المقارنة، على سبيل المثال مع أي عود مصنوع في سنة 1959 على يد (قرابيت ديربدروسيان Garabet der Bedrosian) صانع العود الأرمني في دمشق.
هنا نجد أنه مثلما هو الحال في العديد من الآلات التي صنعها “الأسطى علي” فإن الأولوية هي للبساطة. إن هذه الآلة تفتقر للزخارف والتطعيم على مساحات واسعة التي تميز الأعواد السورية والمصرية التي كانت تصنع في هذه الفترة من الزمن. القمرات مصنوعة من نحت بسيط من خشب الورد. وتمثل القمرتان الصغيرتان طائرين يواجهان بعضهما البعض بشكل متناسق، ما يرمز إلى الخصوبة، والخلود، والحظ السعيد. من المحتمل أن يكون زند العود يحتوي على خشب ليّن في المركز، ويغطيه خشب الورد وقطع طولية خفيفة فاصلة. وتكمل علبة المفاتيح أو البنجق بمفاتيحها الـ 11 (بدلاً من 12) المظهر البسيط لهذه الآلة المهمة جداً. وبغض النظر عن علامات البلى العادية الموجودة على (الرقمة) الكبيرة الحجم وعلى النهاية السفلية، فإن حالة العود ممتازة.
في عشرينيات القرن الماضي أصبحت تقنيات عزف العود تتطلب تحريك اليد اليسرى لأعلى زند العود وأن تقوم الأصابع بضغط الأوتار للأسفل على الصدر، ويعود الفضل في ذلك بشكل كبير إلى التجارب التي أجراها “شريف محي الدين تارغان”. وأصبح من الضروري أن يتم مد الوجه الامامي لزند العود إلى أبعد من زند العود، كما هو واضح في الوجه الأمامي لزند العود المصنوع من خشب الجوز (مرة أخرى، يمكنكم المقارنة مع العود أعلاه الذي صنعه “قرابيت ديربدروسيان” بطريقة أكثر تقليدية). من بين طلاب “شريف محي الدين” من المحتمل أن يكون “جميل بشير” هو من قام بالتوسع في هذا الأمر بشكل أكثر تركيزاً.
يمكننا تتبع هذا الأمر من خلال مؤلفاته الإبداعية، كما يمكن ملاحظته في كيفية قيامه بوضع قواعد ومنهج للتوسع في استخدام العود في كتاب مختص بالطرق. وقد تم نشر الكتاب في 1961 حيث فرضته وزارة التربية والتعليم كمقرر إلزامي في المدارس الموسيقية.
ترتكز هذه الطريقة على ضبط/دوزنة العود بالكامل من صول قرار إلى صول جواب بوضع الوتر الأقل شدة في الصوت على اليمين (الطريقة الصادرة حديثاً حصلت فيها عملية إبدال حيث تتم الدوزنة من دو قرار إلى دو جواب وهذا الأمر تم القيام به دون إذن أصحاب حقوق الطبع).
بعد مقدمة تتكلم عن بعض أساسيات ومبادئ ورموز الموسيقى، يتعرف الطلاب على ستة أقسام طويلة من التمارين والقطع الموسيقية، ترمز ربما إلى السنوات الست المخصصة للدراسة في معهد الفنون الجميلة. وتتم الإشارة إلى الحركة إلى أعلى زند العود من خلال إشارات الأصابع على تمارين السلم الموسيقي.
وفي القسم السادس يتعلم الطالب كيفية عزف أنماط معقدة ونوتات مزدوجة على المواضع العليا من الوجه الامامي لزند العود.
إن أسلوبه المميزة في التعامل مع العود كانت نتاج العديد من سنوات العمل في مجال التعليم والتي نشط فيها “بشير” على عدة جبهات. وربما كان قد استفاد من دراسته للأساليب الغربية أثناء تعلمه العزف على الكمان: ولم يتم التركيز بشكل وافٍ على عزفه للكمان، مع أنه يمثل مرحلة مهمة من مراحل تكوينه الموسيقي. فقد قام بتدريس العزف على العود والكمان في معهد الفنون الجميلة وكان من ضمن طلابه “عاتكة الخزرجي” وهي شاعرة ومحاضرة مشهورة في جامعة بغداد. وفقاً لما أورده “جان كلود تشابريه”، أحد المعلقين والشارحين الأوائل، فإن طلابه كانوا يشعرون بالأسف لكونه لم يطور من مساره المهني في مجال العزف في أوروبا في ستينيات القرن الماضي. ولكنه كان قد عانى من مشاكل في القلب في بدايات هذا العقد تطلبت منه التراجع وأخذ قسط من الراحة حتى من عمله في معهد الفنون الجميلة.
قبل سنتين من وفاته (توفي عن عمر 57 سنة) أعلن بشير عن تحدي للموهوبين في مجلة “الشبكة” اللبنانية حيث خصص جائزة كبيرة لمن يتمكن من عزف مقطوعته الموسيقية “سماعي نهاوند”.
لم يتطوع أحد لخوض هذا التحدي، ولم تذهب الجائزة لأي شخص.
إن الآلة الظاهرة في هذه المقالة موجودة الآن في نيوجيرسي في الولايات المتحدة الأمريكية في المجموعة المملوكة لابن “جميل بشير” واسمه “جنيد”. كل الشكر للسيد “جنيد” للسماح لنا بالاطلاع على أرشيفه ومشاركتنا ذكرياته. والشكر موصول للسيد “فرانشيسكو ايانوزيلي” للسماح لنا بالاطلاع على الوثائق التي بحوزته.
المصدر :
“جان كلود تشابريه” Analyses de musiques traditionnelles: identification de systemes acoustiques, scalaires, modaux & instrumentaux ; representation morpho-melodique, structuro-modale & du langage instrumental) باريس – أرابيسك، 1996 (انتهى من العمل فيه في 1976 كبحث لنيل شهادة الدكتوراة).