سالفاتوري مورا
إن آلة العود المبينة في هذه اللوحة (العود التونسي) تخبرنا قصة عن أول صانع آلات وترية عربي من تونس “عبد العزيز جميل” (1895-1969). وتمثل حرفية هذا الرجل جسراً يصل بن صناع العود التونسيين غير المعروفين في القرن التاسع عشر وصناع الآلات الوترية الحاليين. وتقدم اللوحة نفسها (’97X66 أكريليك على خشب الأبلكاش Acrylique sur Contre Plaqué) التي رسمها الفنان التونسي “جلال بن عبد الله” (مواليد 1921) لمحة عن تاريخ الهوية الوطنية التونسية بكل تعقيداتها.
في يوم السبت الموافق 27 يونيو 2015، عندما كنتُ أبحث في العود التونسي لعدة أسابيع، أخذت إجازة في نهاية الأسبوع لزيارة “المرسى” وهي بلدة في شمال شرق ساحل الخليج التونسي بالقرب من “سيدي بوسعيد”. لقد اختار الكثير من الأجانب – أغلبهم من الطليان والأمريكان – ممن يعملون ويدرسون في تونس العيش في “المرسى” حيث تشتهر بمَعلمين مميزين: قصر يعود للقرن السادس عشر معروف باسم “العبدلية”، ومطعم مشهور “صفصاف” الذي يقدم أفضل “بريك” منزلي الصنع وأفضل حلويات “بمبالوني”. لم تكن هذه أول زيارة لي لبلدة “المرسى” ولكني توجهت هناك هذه المرة للبحث عن صالة عرض خاصة (صالة عرض أليكساندر روبتزوف Gallerie Alexandre Roubtzoff) كانت قد أعلنت عن معرض جديد للوحات فنانين من (مدرسة تونس للرسم école de Tunis). كان هناك ملصق للوحة لآلات موسيقية بانتظاري على الباب الأمامي لصالة العرض استطعت أن أتعرف على “العود التونسي” من بينها. لقد قرأت عن الرسامين الوطنيين التونسيين ولكني لم أكن متأكداً من وجوب المتابعة في نفس مسار البحث حتى هذه اللحظة. ولكني من هذه اللحظة بدأت البحث عن اللوحة والرسام نفسه.
قام “سيف شاوش” وابنته بافتتاح صالة العرض الخاصة هذه في 2014 وأطلقا عليها هذا الاسم تيمناً بالرسام الروسي (أليكساندر روبتزوف 1884-1949) الذي عاش في “سيدي بوسعيد” خلال العشرينيات من القرن الماضي وقام برسم الكثير من المشاهد واللوحات الفلكلورية. لقد كنت مهتماً بشكل خاص بمعرفة السبب الذي دفع القيمين على المعرض لاختيار هذه اللوحة بالذات لتمثيل المعرض. عندما تجاذبنا أطراف الحديث بعد الزيارة، شرح لي “شاوش” بأن فكرة الموسيقى كانت تحريضية/استفزازية وأتاحت الفرصة للقيمين على المعرض لتقديم مدرسة الرسم التونسية من منظور جديد. فمن خلال الموسيقى، يمكنهم التأمل في تاريخ تونس بينما يقدمون في الوقت نفسه منظوراً عن الحياة الموسيقية في الوقت الراهن. وعندما أخذت حقيبتي وكنت على وشك المغادرة، ذكرني “شاوش” بأن “جلال” لا يزال على قيد الحياة وأنه سيبلغ من العمر 94 عاماً هذا الصيف.
هذه اللوحة ربما تكون قد رُسمت في أواخر الستينيات من القرن الماضي. وتظهر اللوحة مجموعة كبيرة من الآلات الموسيقية التقليدية التي لا تزال مستخدمة في وقتنا الحالي (الربابة – الناي – القانون – الدربكة – نقارات – الطار – والعود التونسي) مسنودة على الجدار على أرضية ذات لون شاحب من البلاط المزخرف بزخارف تقليدية، وكأن العازفين تركوها هناك لأخذ استراحة. عند النظر إلى اللوحة، حاولتُ أن أتخيل صوت المواجهة بين الآلات والعازفين. نظرتُ بعناية لكي أميز التفاصيل التي رسمها “جلال”: الأوتار، نحت الشمسية، شكل الرقمة، طيات الجلد عند الحافة، الأوتار الأربعة المزدوجة.
هذه اللوحة ربما تكون قد رُسمت في أواخر الستينيات من القرن الماضي. وتظهر اللوحة مجموعة كبيرة من الآلات الموسيقية التقليدية التي لا تزال مستخدمة في وقتنا الحالي (الربابة – الناي – القانون – الدربكة – نقارات – الطار – والعود التونسي) مسنودة على الجدار على أرضية ذات لون شاحب من البلاط المزخرف بزخارف تقليدية، وكأن العازفين تركوها هناك لأخذ استراحة. عند النظر إلى اللوحة، حاولتُ أن أتخيل صوت المواجهة بين الآلات والعازفين. نظرتُ بعناية لكي أميز التفاصيل التي رسمها “جلال”: الأوتار، نحت الشمسية، شكل الرقمة، طيات الجلد عند الحافة، الأوتار الأربعة المزدوجة. جلال بن عبد الله من أكثر الرسامين إنتاجاً للوحات الأدوات الموسيقية ضمن مجموعة (مدرسة تونس للرسم école de Tunis) (بوزيد: 1988: 35). هذه المجموعة من الرسامين العرب الرواد (يحيى تركي – عمار فرحات – عبد العزيز غورغي – نيللو ليفي – إدغار نكاشة – إيمانويل بوشيري) التي تشكلت في 1949 كانت مفعمة بروح الوطنية. لقد أصبح الموروث الثقافي للمنطقة، بما في ذلك الموسيقى (المعلوف، الستمبيلي، والمجموعات التقليدية) موضوعاً للرسم، حيث تٌرك التراث/الفولكلور جانباً أو تم تحويله إلى المشروع الوطني (بوصابح 2002: 7 – بوزيد 1998: 20).
خلال زيارتي لمنزل جلال بن عبد الله على سفوح “سيدي بوسعيد” حيث انتقل للعيش هناك مع أسرته في 1938، شرح لي جلال بأن اهتمامه بموسيقى المعلوف والأدوات الموسيقية قاده إلى رسم الأدوات المواضيع الموسيقية واستخدام الآلات الموسيقية كعارضات/نماذج عرض حيث جرب على نماذج تاريخية من المجموعة الخاصة بعائلته لعمل تصاميم. وتبين بعض اللوحات، مثل (ورشة صانع الآلات الوترية L’atelier du Luthier 10X13’) (في الستينيات من القرن الماضي) الحس الموسيقي التونسي من خلال الأنماط التونسية للترفيه الموسيقي الخاص، أو مجموعات الآلات الموسيقية كنوع من الطبيعة الصامتة، مثل لوحة (الطبيعة الصامتة لعود تونسي 2005) ومجموعة الطوابع الصادرة عام 1957 للجمهورية التونسية التي تضمنت “العود التونسي” (بوكير، 2013:335).
ظهرت إحدى رسومات جلال بن عبد الله في 1938 في مقالة (الوضع الراهن للموسيقى العربية) الصادرة في المجلة النسائية “ليلى” (عدد يونيو 1938، 10-11). هذه المجلة صدرت بين 1936 و 1940 وكانت هذه المقالة أول صيغة للموسيقى الوطنية التونسية. وقد تطورت الموسيقى التونسية منذ ذلك الوقت بعد مؤتمر القاهرة الشهير في 1932 وما تلاه من تأسيس لمعهد الراشدية الموسيقي في 1935. قدمت المجلة مقالات عن مواضيع تشمل الفن، والأدب، والنقد الأدبي، والتاريخ، والمسرح، والسينما، والموسيقى، والإذاعة. وقدمت وجهات نظر حول نمط الحياة المحلي واستخدمت الحوار الإنساني لإشراك النخبة المحلية في مقاومة جهود الفرنسة (French assimilation) وتطوير الوعي الوطني (مملوك 2008). وتظهر الصورة مجموعة الجوقة (من اليسار لليمين: ربابة، عود تونسي، ناي، نقارات) وموسيقيين تونسيين جالسين على سجادة في غرفة ذات نافذة مطلة على مئذنة ترمز إلى الهوية الإسلامية. وعلى الرغم من كون الرسم انطباعياً فإنه يمكننا أن نستشف من المضمون أن العود هو “عود تونسي”.
في بداية حديثنا، نظر إلي جلال وقال: “لقد رسمتُ هذه الآلات لأن شكلها وهيئتها جذبتني”. بالنسبة له، فإن الرسم هو عبارة عن ذاكرة بصرية واعية للأشياء. إن رسم الآلات الموسيقية بهذا الشكل يمكن أن يُفهم كنوع من المشاركة في الموسيقى نفسها في “المعلوف” والحس المحيط به. إن هذا العمل الإبداعي يمثل عملية انتقال حيث يستحوذ العود على المخيلة وتصبح الحقيقة المادية للموضوع/الغرض طريقةً لتجسيد الفكرة. وقد كنت متأكداً – من خلال ما شاهدته من الإغراق في التفاصيل في الرسومات – بأن جلال بن عبد الله كان يمتلك عوداً تونسياً، وعندما أدخلني إلى غرفة المعيشة في منزله، كان العود موجوداً هناك في الزاوية بالقرب من صندوق خشبي قديم. كانت هناك ثلاثة أقمار منقوشة في الوجه الخشبي الغامق المصنوع ربما من خشب الأرز اللبناني أو خشب الماهوغوني. قال جلال بن عبد الله بأن هذه الآلة تعود ملكيتها لأسرته، وتبين أنها النموذج الوحيد المعروف المتبقي من العود التونسي الذي صنعه “عبد العزيز جميل” حيث تظهر اللصاقة الموجودة بأن تاريخه يعود إلى 10 أغسطس 1923.
في شمال أفريقيا لم يكن من المألوف أن يقوم الصانعون بالتعريف عن أنفسهم من خلال الكتابة على الآلات التي يصنعونها، واستمر الحال هكذا حتى بدايات القرن العشرين، ولكن من المعروف أن الصانعين الأوائل كانوا من اليهود التونسيين وكانوا عادةً من الموسيقيين. وبالتأكيد فإن عبد العزيز جميل تأثر بتقاليد اليهود التونسيين في أواخر القرن التاسع عشر، بالنظر إلى أنه اعتباراً من عشرينيات القرن الماضي وما بعد فإن صناعة الآلات الوترية كانت تتركز بشكل رئيسي في أيدي النجارين في مدينة تونس العتيقة حيث زاول جميل أول عمل له (جميل 2016). فقد أمضى أول فترات حياته في الحي اليهوي “الحرة” المعرف باسم “حفصية” بالقرب من أحد الشوارع الرئيسية لتونس العتيقة (رمضان باي) وقد صنعت هذه الآلة في ورشة جميل الكائنة في شارع (3 سيدي مفرّج) (جميل، 2016: 88، 94)، ويبدو تأثير الصانعين الآخرين مثل “كليمنت باردا” أو “حاييم بشيري” واضحاً هنا. إن إحدى النقاط المثيرة للاهتمام في هذا العود التونسي المميز أنه يسبق آلات العود الأخرى الشرقية (النمط المصري/السوري) الموجودة التي صنعها جميل.
قد يكون الوجه مصنوعاً من ثلاث قطع من الخشب الخشن. وثمة قطعة من خشب الجوز محاطة بالعظام تستخدم كـ “رقمة pick-guard” على شكل “بقلاوة” وهو شكل ما زال مستخدماً بشكل شائع في صناعة الآلات الوترية التونسية. يدعي كل من اليونانيون والأتراك أنهم من اخترع هذه الحلويات المكونة من طبقات رقيقة “البقلاوة” (بيري، 1994: 87) والاحتمال الأكبر أنها وصلت إلى تونس من خلال عائلات “بيكال”. ويمكن مشاهدة شكل مشابه للبقلاوة في المعجنات التونسية التقليدية “المقروض” التي تصنع من السميد وتحشى بالتمر المطبوخ. وقد أصبحت هذه الأشكال جوهرية في تحديد هوية الآلات الموسيقية.
تم وضع الجلد على نصف حافة الآلة حيث يرتبط “الوجه face” مع الظهر أو القصعة ليحميها من الرطوبة الناتجة عن جسم العازف. أما الزند/الرقبة “neck” (24 سم) ففيها (مراية fingerboard) قد تكون مصنوعة من خشب الجوز. وتوجد قطع طولية أكبر من العظام على كلا جانبي المراية تنتهي عند خمس (5/1) طول اهتزاز الوتر (60 سم) بدلاً من أن تستمر لغاية نهاية الزند/الرقبة. أما الفرس المطلية باللون الأسود فهي سمكية بعض الشيء وطويلة 18 سم، ويوحي شكلها الشبيه بالفراشة (papillion ) بأنها من النوع السائد في الآلات الموسيقية المصنوعة في شمال أفريقيا.
أما (البنجق pegbox) فهو شائع في العود التونسي وربما يكون مصنوعاً من خشب القيقب، بزاوية 90 درجة تقريباً ومنحوت من قطعة واحدة من الخشب ومطلية باللون الأسود. يبلغ طول البنجق 23 سم وسمكه 4 سم وينتهي بزينة لطيفة على شكل زهرة. ويحتوي البنجق على 8 (مفاتيح pegs) بسيطة، قد تكون مصنوعة من خشب القيقب، ومطلية كذلك باللون الأسود وتبعد عن بعضها البعض 4.5 سم. يبلغ عمق (الجسم body) 19 سم وهو مصنوع على شكل حبة كمثرى “أجاص” الشائعة في تونس، ويتكون من 15 قطعة طولية متناوبة (ربما تكون من خشب الجوز والقيقب) وصولاً إلى خلف الزند. أما الظهر/القصعة فينتهي بقطعة طولية من الخشب حول حافة الجسم بحيث تضم الأضلاع بقوة. ويشتمل الوجه، الذي يبلغ عرضه في أعرض نقطة منه 48 سم، على (شمسية rosette) تبعد 13 سم عن نهاية الزند، وشمسيتين تبعدان 24 سم عن حافة الجسم. وتتكون الشمسيتان الصغيرتان من تصميم هندسي عبارة عن مجموعة من 8 أشكال على شكل ماسة، ودائرة واحدة، و4 أنصاف دوائر و4 مثلثات. هذا التصميم هو الأكثر شيوعاً وما زال يعاد إنتاجه على النماذج المعاصرة كذلك. ويمكن ملاحظة هذا التصميم في العود الموجود في متحف هورنيمان في لندن والذي يعود تاريخه للقرن التاسع عشر.
إن قصة العود التونسي، كجزء من الهوية الوطنية التونسية، يمكن تتبعها في سياق الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وحركات المقاومة المضادة للاستعمار، والبرامج السياسية الوطنية التي ازدهرت في النصف الأول من القرن العشرين. إن هذا العود واللوحة يبينان بأن الموسيقى والرسم قد ساهما، بعد الاستقلال (بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) في تفكيك الإيديولوجيا الاستعمارية وإعادة تشكيل الهوية الوطنية التي غذتها المقاومة الثقافية. إن هذا العود التونسي يزيد من معرفتنا بتاريخ الموسيقى التونسية بشكل عام، وبحرفية وصنعة “عبد العزيز جميل” على وجه الخصوص. علاوة على ما سبق، فإن تقديم هذا العود التونسي في صالة عرض في يومنا هذا يدل على إمكانية إعادة اكتشاف الأغراض التاريخية من خلال الفن البصري، وإعادتها إلى الحياة المعاصرة.
نتوجه بالشكر لكل من جلال بن عبد الله وزوجته لترحيبهم بنا في منزلهم، والشكر موصول لناديا مملوك للسماح لنا بالاطلاع على محتويات مكتبتها من أعداد مجلة “ليلى”. كما نشكر (صالة عرض أليكساندر روبتزوف Gallerie Alexandre Roubtzoff) لسماحهم لنا بالتقاط صور للوحة جلال بن عبد الله.
ترجمة المقال من الإنجليزية إلي العربية : مصعب حياتلي.
المراجع
Bouker, Amin. 2013. Jellal Ben Abdallah, Sous l’Artifice, la Simplicité. Éditions Cérès. Tunis.
Boussabeh, Feten. 2002. Etude de la Musique a travers la Peinture Tunisienne du XXéme siecle. Mémoire de fin d’etudes. Institute Superieur de Musique de Tunis.
Bouzid, Dora. 1998. Ecole de Tunis. Alif – Les éditions de la Méditerranée. Tunis.
Jemaïl, Kalthoum. 2016. Sheikh al-Fannanine le Maȋtre des Musiciens, Abdelaziz Jemaïl et le Siècle de la Tunisie Moderne. Edition Universelle, Tunis.
Mamelouk, Nadia Nadja. 2008. Anxiety in the Border Zone: Transgressing Boundaries in Leïla: revue illustrée de la femme (Tunis, 1936-1940) and in Leïla: Hebdomadaire Tunisien Indépendant (Tunis, 1940-1941). PhD., University of Virginia.
Perry, Charles. 1994. The Taste for Layered Bread Among the Nomadic Turks and the Central Asian Origins of Baklava. Culinary Cultures of the Middle East. Ed. Sami Zubaida and Richard Tapper. I.B. Tauris Publishers, London, New York. 85-91.