إلى جانب أغلب الأساليب المعروفة في صنع آلة العود والعزف عليها يوجد عالم للعود غير معروف نسبيا وعامّة ما يشار إليه بالعود الأندلسي، إلا أنّه يشمل تقاليد مختلفة للعود بالجزائر والمغرب وتونس، ونخصّص هذا المقال لتقديم حوار خاصّ مع عازفة العود التونسي المتميّزة عبير العيادي. وقد انطلق هذا الحوار في نابولي خلال لقاء جمع كل من عبير ورايتشيل باكلس ويلسن بالمجلس الدولي للموسيقى التقليدية ICTM ثم تواصل عبر الانترنات بين عبير والعازفة السورية رحاب عازار وريتشل بكيلز ويلسن.
ولدت عبير العيادي سنة 1984 بصفاقس، تحصلت على شهادة الماجستير في الموسيقى وأثنولوجيا الموسيقى اختصاص تعبير آلي في 2008 وهي عازفة عود شرقي وعود تونسي (العود العربي). بدأت التدريس كأستاذة بالمعهد العالي للموسيقى بصفاقس في سنة 2007 و بداية من سنة 2009 درّست الموسيقى بمدرسة إعدادية بصفاقس ومنذ سنة 2012 تمّ انتدابها كمساعدة بالمعهد العالي للموسيقى بصفاقس، وهي بصدد إعداد أطروحة دكتوراه في العلوم الثقافية حول: العود التونسي، دراسة تاريخية وسوسيولوجية وفنية. قدّمت عروض عديدة بتونس وخارجها وأذكر مثلا الجزائر، مراكش، نانت، باريس، روما ونابولي.
دعونا عبير لتحدّثنا عن بداية توجّهها للعود التونسي وعلاقتها مع المدارس الأخرى للعود.
عبير: بدأت العزف على العود التونسي في سنة 2007، بحثت عن الإضافة والتجديد وأردت التركيز على تطوير أسلوبي الخاص في العزف من خلال المراوحة بين العود الشرقي والعود التونسي. انبهر زياد غرسة بعزفي على العود الشرقي وأطّرني في خطواتي الأولى في العزف على العود التونسي وطلب مني الالتحاق بفرقة الرشيدية التي كان يديرها آنذاك في المعهد الرشيدي. وقد ساعدتني في ذلك تجربتي في العزف على العود الشرقي ولم ألق صعوبة كبيرة في العزف على العود التونسي.
أعشق الموسيقى منذ الصغر وقد شجّعني أبي وأمي على ممارسة هوايتي بالالتحاق بالمعهد الجهوي للموسيقى وأيضا بتوفير الآلات الموسيقية بالمنزل؛ الأرغن والعود الشرقي أولاّ ثم العود العراقي والعود التونسي.
لقد زاد تعلّقي بالعود شيئا فشيئا بالتعمّق في معرفة مختلف مدارس العزف وخاصّة المدرسة العراقية حيث تتلمذت على يد الأستاذ العراقي محمد حسن نجم، وهو تلميذ علي الإمام ومنير بشير وقد دعمني وأطّرني في عروض كثيرة سواء منفردة أو ضمن مجموعات موسيقية.
وفي مرحلة متقدّمة ارتأيت أنّه من الضروري بالنسبة لي تعلّم العزف على العود التونسي كآلة تقليدية تونسية خاصّة في ظل قلّة عازفيها، كما أنّني خصّصت بحوثي الجامعية للتعمّق أكثر فيها.
رحاب: ماهي الأنماط الموسيقية التي توظّف فيها آلة العود التونسي؟
عبير: يعتبر العود التونسي من الآلات الأساسية التي انبنى عليها الجوق التقليدي التونسي للمالوف والتي تمّ الاعتماد عليها في تنفيذ التراث الموسيقي التونسي الآلي والغنائي، وقد تكوّن الجوق الذي مثّل تونس بمؤتمر القاهرة سنة 1932 من: عود تونسي ورباب وطار ونغارات.
للعود التونسي دور رئيسي في أداء المالوف فهو يقوم بمصاحبة الغناء ويقوم بالإجابة على ارتجال القصائد ويتمتّع بوظيفة مزدوجة لحنية إيقاعية. بالإضافة إلى وظيفته الأساسية وهي عزف الاستخبار وهي التسمية الخاصة بالارتجال الآلي بالمغرب العربي (وهو ما يعرف أيضا بالتقسيم) قالب موسيقي آلي يبرز العازف من خلاله خصائص الطبع عبر توظيف خلايا لحنية إيقاعية خاصة ومميّزة للطبع.
رحاب: كيف تتمّ تسوية الأوتار وهل هي مرتبطة بالمالوف؟
عبير: تتميّز منطقة المغرب العربي بأنواع مختلفة للعود ساهمت بشكل رئيسي في الموسيقى التقليدية وبُني على أساسها النظام الموسيقي بالمغرب العربي، وتميّزها يكمن في جزئيات تتعلّق بالحجم ونسب القياسات وبصورة أوضح في عدد الأوتار. ويتكوّن العود التونسي من أربعة أوتار مزدوجة تكون تسويتها على النحو التالي:
وتستمدّ هذه الأوتار تسميتها من أسماء الطبوع التونسية الذيل – الحسين – الماية والرمل. وتجدر الإشارة بأنّ مسألة تسوية الأوتار بقيت مجهولة المصدر والزمان الذي وجدت فيه، حيث أنّ الاتجاه المميّز الذي اتخذه تعديل العود التونسي والمغربي بصفة عامة يختلف عن التعديل المستعمل في العود المشرقي.
رحاب: ماهو المعروف بالنسبة لتاريخ الآلة؟
عبير: يعود أصل الآلة على الأرجح إلى فترة نضج الأندلس وازدهارها (من ال قرن8 إلى ال قرن14 م) ولكن لا نستطيع الجزم بتاريخ ظهورها ولا كيفية وصولها إلى تونس ولا طريقة تشكّل تسويتها في هذه المدرسة. ولا نعرف على وجه التّدقيق اللّحظة التي اتّخذ فيها هذا العود شكله النهائي إذ لا نجد له أثرا في المخطوطات القديمة إلاّ في مراجع مغاربية وذلك في القرن 17م فهي تقدّم أقدم صورة عن العود الرباعي إجمالا بما في ذلك العود التونسي. أمّا بالنسبة لخصائص هذا العود وأسماء أوتاره المتداولة في المالوف وكيفية تسويتها فقد ذكرت في بعض المخطوطات التي تعود إلى القرن 19م[1].
رحاب: ماهي الخصائص التي تميّزه عن العود الشرقي؟
عبير: هذا العود مميّز من حيث الشكل وطريقة الصّنع إذ له تركيبة خاصّة، فهو يتميّز بصغر صندوقه الصوتي فيكون ذا شكل كمثري، ويتميّز وجه العود بقوة تجعله يتحمل ضغط الأوتار وهو مدعّم بحزام من الجلد يحيط بنصف أطرافه، كما يحتوي على ثلاث قمرات تكون حاملة لأشكال فنية وزخرفية تحفر مباشرة في الوجه.
يبلغ طول ذراع العود 24 صم وهو يمثل 5/3 بالنسبة إلى طول الوتر وهو ما يجعلنا نتحصّل على سداسية كبيرة عند العفق في مكان التقاء الذراع بالوجه. ويوفّر طول الذراع أكثر مساحة لعزف الجوابات على وتر واحد وهو المحير ويقوم العازف بتعويض درجات القرار بعزفها في الجواب. وكما ذكرنا سابقا على خلاف العود الشرقي الذي يحتوي على 6 أوتار فإنّ العود التونسي يتكوّن من 4 أوتار وتكون أبعادها وتسويتها مرتبطة أساسا بأداء الطبوع التونسية(المقامات).
رحاب: من صنع لك آلة العود التونسي؟
عبير: اشتريت آلة العود التونسي سنة2007 وقد صنعت في نفس السنة من قبل الصانع “رضا الجندوبي” وهو بارع جدا في صناعة العود الشرقي والعود التونسي.
هناك صانع آخر وهو “الهادي بالأصفر” ماهر في صناعة العود التونسي والرباب بتونس، تعلّم صناعة الآلات التقليدية عن والده “محمد بالحسن بالأصفر”.
رحاب: هل يعزف هذا العود بريشة مختلفة عن العود الشرقي؟
نمسك الريشة بين إصبعي اليد اليمنى السبابة والإبهام ويتمّ إخراجها من بين إصبع السبابة والوسطى مع ضمّ باقي الأصابع بحيث تكون الريشة عمودية على الأوتار. إنّ طريقة مسك الريشة تضفي تقنية خاصة تعمل على إبراز الخصائص الإيقاعية عن طريق الفرداش أو تقنية الصد والرد وتضفي كذلك بعدا ايتيريفونيا واضحا في العزف كما تضاعف من شدة الصوت وتجعل العود يتميز برنين قوي.
رحاب: وهل تقنيات العزف مختلفة كذلك؟
عبير: تقنيات العزف مميّزة وخاصّة بهذه الآلة أذكر مثلا تقنية جسّ الأوتار المطلقة التي توفّرها تسوية الآلة في أداء الجمل اللحنية على وتر واحد وهذا يعطي خاصية التوافق. أشير كذلك إلى الرنين المميّز للأوتار المطلقة الذي يستعمل بكثافة ويعطي للتخت التقليدي طابعا خاصّا فوتر الكردان مثلا من الأوتار التي غالبا ما تعزف مطلقة، كما أشير إلى المراوحة في الجمل بين القرار والجواب. وتوجد تقنية أخرى ناتجة عن طريقة التسوية وهي القفز بين الأوتار فأثناء العزف نضطر إلى تقنية القفز بين الأوتار أي عندما نعزف مثلا » « sol Fa mi ré يجب أن نقفز الوترré 3 الموجود بين الوترRé 2 والوتر Sol وهذا يتطلب مهارة في العزف لتضفي بعدا جماليا تتفرّد به المدرسة التونسية.
رحاب: بماذا تفسّرين قلّة العازفين على العود التونسي حاليا؟
عبير: رغم المكانة التي حضي بها العود التونسي في إطار جوق المالوف، فإنّه لم يستطع أن يجد من خلاله سبلا للتّميّز والتطوّر على غرار عديد الآلات الأخرى في المجموعات الموسيقية الشرقية أو الغربية. لا يوجد الكثير من المختصّين في العزف على هذه الآلة، وحتى التسجيلات الخاصّة بها فهي قليلة، كما أنّ الكتب والمراجع التي تناولتها بالبحث نادرة جدا. تنوّعت أساليب العزف من خميس الترنان إلى زياد غرسة مرورا بصالح المهدي والطاهر غرسة وغيرهم. ولكن لم يكن هناك مناهج أو دراسات لتعليم الآلة، ولا بحوث متخصّصة فيها.
ولعلّ ارتباط العود التونسي بفرقة الرشيدية وبجمعيات المالوف من شأنه أن يعيق انتشاره، كما أنّ انحصار استعماله في هذا الإطار قد يقف عقبة أمام تطوّره. فلم نلاحظ تجديدا كبيرا أو أداء لألوان فنّية جديدة ولم تتفتّح هذه الآلة على موسيقات أخرى.
رحاب: هل يمكن أن تحدّثينا عن تكوينك الموسيقي كعازفة وعن أبحاثك؟
عبير: أحبّ العزف كثيرا وأتمرّن لساعات طويلة في اليوم، استمعت إلى مختلف المدارس وإلى عديد العازفين المتميّزين وخاصة المدرسة التقليدية الشرقية والمدرسة العراقية، استمعت كذلك إلى الكثير من الاستخبارات والتسجيلات الخاصة بالعود التونسي وركّزت في البداية على تسجيلات زياد غرسة ثمّ الطاهر غرسة وخميس الترنان حتى أتمكّن من اكتشاف وتطبيق تقنيات العزف على هذه الآلة خاصّة في ظل عدم وجود منهج خاصّ بتعليمها.
إنّ تجاهل الآلة دفعني إلى التخصّص في البحث فيها، ولندرة المعلومات المتوفّرة اعتمدت بالأساس على المصادر الشفوية حيث أجريت لقاءات مع موسيقيّين ومختصّين في العزف عليها وأيضا مع صانعي العود التونسي للتّعرّف على مختلف مراحل صناعة الآلة، كما قمت باعتماد استمارة كوسيلة لرصد أكثر عدد ممكن من الآراء، ولتقصّي مدى معرفة العود التونسي وعازفيه من قبل مختلف الشرائح العمرية من موسيقيّين وغير موسيقيّين، وتقييم مدى حضور الآلة في المشهد السمعي البصري التونسي. وحاولت أن تستجيب الاستمارة أكثر ما يمكن للتمثيليّة من حيث المستوى التعليمي والاجتماعي ومن حيث التكوين الموسيقي.
واعتمادا على تجربتي في العزف والتدريس فإنّني حاولت تأليف منهج تطبيقي لتدريس العود التونسي أوجّهه إلى المختصّين في دراسة الموسيقى اعتمدت فيه على تمارين ومؤلفات قمت بتأليفها خصّيصا لهذه الآلة علّها تمكّن المتعلّم من اكتساب تقنيات معيّنة في العزف وتشجّع العازفين الشبان على الإقبال عليها واختيارها. وقمت أيضا باختيار بعض القطع من المالوف والتراث الموسيقي التونسي.
ترجمة رحاب عازار.